فصل: فصل لَا تُدْفَعُ الْكَفّارَةُ إلّا إلَى الْمَسَاكِينِ وَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْفُقَرَاءُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.حُجَجُ مَنْ قَالَ إنّهُ الْوَطْءُ:

قَالَ الّذِينَ جَعَلُوهُ الْوَطْءَ لَا رَيْبَ أَنّ الْعَوْدَ فِعْلٌ ضِدّ قَوْلِهِ كَمَا تَقَدّمَ تَقْرِيرُهُ وَالْعَائِدُ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ وَإِلَيْهِ وَلَه: هُوَ فَاعِلُهُ لَا مُرِيدُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} فَهَذَا فِعْلُ الْمَنْهِيّ عَنْهُ نَفْسِهِ لَا إرَادَتُهُ وَلَا يَلْزَمُ أَرْبَابَ هَذَا الْقَوْلِ مَا أَلْزَمَهُمْ بِهِ أَصْحَابُ الْعَزْمِ فَإِنّ قَوْلَهُمْ إنّ الْعَوْدَ يَتَقَدّمُ التّكْفِيرَ وَالْوَطْءُ مُتَأَخّرٌ عَنْهُ فَهُمْ يَقُولُونَ إنّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أَيْ يُرِيدُونَ الْعَوْدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [الْمَائِدَةُ 6] وَنَظَائِرِهِ مِمّا يُطْلَقُ الْفِعْلُ فِيهِ عَلَى إرَادَتِهِ قَالُوا: وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِ الْعَوْدِ بِنَفْسِ اللّفْظِ الْأَوّلِ وَبِالْإِمْسَاكِ نَفَسًا وَاحِدًا بَعْدَ الظّهَارِ وَبِتَكْرَارِ لَفْظِ الظّهَارِ وَبِالْعَزْمِ الْمُجَرّدِ لَوْ طَلّقَ بَعْدَهُ فَإِنّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلّهَا قَدْ تَبَيّنَ ضَعْفُهَا فَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ إلَى دِلَالَةِ اللّفْظِ وَقَوَاعِدِ الشّرِيعَةِ وَأَقْوَالِ الْمُفَسّرِينَ هُوَ هَذَا. وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ.

.فصل مَنْ عَجَزَ عَنْ الْكَفّارَةِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ:

وَمِنْهَا: أَنّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الْكَفّارَةِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعَانَ أَوْسَ بْنَ الصّامِتِ بِعَرَقِ مَنْ تَمْرٍ وَأَعَانَتْهُ امْرَأَتُهُ بِمِثْلِهِ حَتّى كَفّرَ وَأَمَرَ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ أَنْ يَأْخُذَ صَدَقَةَ قَوْمِهِ فَيُكَفّرَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ سَقَطَتْ بِالْعَجْزِ لَمَا أَمَرَهُمَا بِإِخْرَاجِهَا بَلْ تَبْقَى فِي ذِمّتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ الشّافِعِيّ وَأَحَدُ الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى سُقُوطِهَا بِالْعَجْزِ كَمَا تَسْقُطُ الْوَاجِبَاتُ بِعَجْزِهِ عَنْهَا وَعَنْ إبْدَالِهَا. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ أَنّ كَفّارَةَ رَمَضَانَ لَا تَبْقَى فِي ذِمّتِهِ بَلْ تَسْقُطُ وَغَيْرَهَا مِنْ الْكَفّارَاتِ لَا تَسْقُطُ وَهَذَا الّذِي صَحّحَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيّةَ. وَاحْتَجّ مَنْ أَسْقَطَهَا بِأَنّهَا لَوْ وَجَبَتْ مَعَ الْعَجْزِ لَمَا صُرِفَتْ إلَيْهِ فَإِنّ الرّجُلَ لَا يَكُونُ مَصْرِفًا لِكَفّارَتِهِ كَمَا لَا يَكُونُ مَصْرِفًا لِزَكَاتِهِ وَأَرْبَابُ الْقَوْلِ الْأَوّلِ يَقُولُونَ إذَا عَجَزَ عَنْهَا وَكَفّرَ الْغَيْرُ عَنْهُ جَازَ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَيْهِ كَمَا صَرَفَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَفّارَةَ مَنْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَ إلَيْهِ وَإِلَى أَهْلِهِ وَكَمَا أَبَاحَ لِسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ أَنْ يَأْكُلَ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْ كَفّارَتِهِ الّتِي أَخْرَجَهَا عَنْهُ مِنْ صَدَقَةِ قَوْمِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ رِوَايَةً وَاحِدَةً عَنْهُ فِي كَفّارَةِ مَنْ وَطِئَ أَهْلَهُ فِي رَمَضَانَ وَعَنْهُ فِي سَائِرِ الْكَفّارَاتِ رِوَايَتَانِ. وَالسّنّةُ تَدُلّ عَلَى أَنّهُ إذَا أَعْسَرَ بِالْكَفّارَةِ وَكَفّرَ عَنْهُ غَيْرُهُ جَازَ صَرْفُ كَفّارَتِهِ إلَيْهِ وَإِلَى أَهْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ إذَا كَانَ فَقِيرًا لَهُ عِيَالٌ وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ يَحْتَاجُ إلَيْهَا أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ؟ قِيلَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْإِخْرَاجِ الْمُسْتَحَقّ عَلَيْهِ السّاعِي أَنْ يَدْفَعَ زَكَاتَهُ إلَيْهِ بَعْدَ قَبْضِهَا مِنْهُ فِي أَصَحّ الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُسْقِطَهَا عَنْهُ؟ قِيلَ لَا نَصّ عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا أَذِنَ السّيّدُ لِعَبْدِهِ فِي التّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ نَفْسَهُ؟ قِيلَ اخْتَلَفَتْ الرّوَايَةُ فِيمَا إذَا أَذِنَ لَهُ فِي التّكْفِيرِ بِالْمَالِ هَلْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ الصّيَامِ إلَيْهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا: أَنّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَفَرْضُهُ الصّيَامُ وَالثّانِيَةُ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ لِأَنّ الْمَنْعَ لِحَقّ السّيّدِ وَقَدْ أَذِنَ فِيهِ فَإِذَا قُلْنَا: لَهُ ذَلِكَ فَهَلْ لَهُ الْعِتْقُ؟ اخْتَلَفَتْ الرّوَايَةُ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ وَالْعِتْقُ يَعْتَمِدُ الْوَلَاءَ وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ أَنّ لَهُ الْإِعْتَاقَ فَعَلَى هَذَا هَلْ لَهُ عِتْقُ نَفْسِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ وَوَجْهُ الْجَوَازِ إطْلَاقُ الْإِذْنِ وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنّ الْإِذْنَ فِي الْإِعْتَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى إعْتَاقِ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الصّدَقَةِ انْصَرَفَ الْإِذْنُ إلَى الصّدَقَةِ عَلَى غَيْرِهِ.

.فصل لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا قَبْلَ التّكْفِيرِ:

وَمِنْهَا: أَنّهُ لَا يَجُوزُ وَطْءُ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا قَبْلَ التّكْفِيرِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ هَاهُنَا فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: هَلْ لَهُ مُبَاشَرَتُهَا دُونَ الْفَرْجِ قَبْلَ التّكْفِيرِ أَمْ لَا؟ وَالثّانِي: أَنّهُ إذَا كَانَتْ كَفّارَتُهُ الْإِطْعَامَ فَهَلْ لَهُ الْوَطْءُ قَبْلَهُ أَمْ لَا؟ وَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلَانِ لِلشّافِعِيّ. وَوَجْهُ مَنْعِ الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِ الْوَطْءِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا} وَلِأَنّهُ شَبّهَهَا بِمَنْ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا وَدَوَاعِيهُ وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنّ التّمَاسّ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ تَحْرِيمُ دَوَاعِيهِ فَإِنّ الْحَائِضَ يَحْرُمُ جِمَاعُهَا دُونَ دَوَاعِيهِ وَالصّائِمَ يَحْرُمُ مِنْهُ الْوَطْءُ دُونَ دَوَاعِيهِ وَالْمَسْبِيّةَ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا دُونَ دَوَاعِيهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَمّا الْمَسْأَلَةُ الثّانِيَةُ وَهِيَ وَطْؤُهَا قَبْلَ التّكْفِيرِ إذَا كَانَ بِالْإِطْعَامِ فَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَيّدَ التّكْفِيرَ بِكَوْنِهِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فِي الْعِتْقِ وَالصّيَامِ وَأَطْلَقَهُ فِي الْإِطْعَامِ وَلِكُلّ مِنْهُمَا حِكْمَةٌ فَلَوْ أَرَادَ التّقْيِيدَ فِي الْإِطْعَامِ لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْعِتْقِ وَالصّيَامِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُقَيّدْ هَذَا وَيُطْلِقْ هَذَا عَبَثًا بَلْ لِفَائِدَةٍ مَقْصُودَةٍ وَلَا فَائِدَةَ إلّا تَقْيِيدُ مَا قَيّدَهُ وَإِطْلَاقُ مَا أَطْلَقَهُ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ اسْتِفَادَةُ حُكْمِ مَا أَطْلَقَهُ مِمّا قَيّدَهُ إمّا بَيَانًا عَلَى الصّحِيحِ وَإِمّا قِيَاسًا قَدْ أُلْغِيَ فِيهِ الْفَارِقُ بَيْنَ الصّورَتَيْنِ وَهُوَ سُبْحَانُهُ لَا يُفَرّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَقَدْ ذَكَرَ {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا} مَرّتَيْنِ فَلَوْ أَعَادَهُ ثَالِثًا لَطَالَ بِهِ الْكَلَامُ وَنَبّهَ بِذِكْرِهِ مَرّتَيْنِ عَلَى تَكَرّرِ حُكْمِهِ فِي الْكَفّارَاتِ وَلَوْ ذَكَرَهُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَرّةً وَاحِدَةً لَأَوْهَمَ اخْتِصَاصَهُ بِالْكَفّارَةِ الْأَخِيرَةِ وَلَوْ ذَكَرَهُ فِي أَوّلِ مَرّةٍ لَأَوْهَمَ اخْتِصَاصَهُ بِالْأُولَى وَإِعَادَتُهُ فِي كُلّ كَفّارَةٍ تَطْوِيلٌ وَكَانَ أَفْصَحَ الْكَلَامِ وَأَبْلَغَهُ وَأَوْجَزَهُ مَا وَقَعَ. وَأَيْضًا فَإِنّهُ نَبّهَ بِالتّكْفِيرِ قَبْلَ الْمَسِيسِ بِالصّوْمِ مَعَ تَطَاوُلِ زَمَنِهِ وَشِدّةِ الْحَاجَةِ إلَى مَسِيسِ الزّوْجَةِ عَلَى أَنّ اشْتِرَاطَ تَقَدّمِهِ فِي الْإِطْعَامِ الّذِي لَا يَطُولُ زَمَنُهُ أَوْلَى.

.فصل هَلْ يُبْطِلُ الْمَسّ تَتَابُعَ الصّيَامِ؟

وَمِنْهَا: أَنّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالصّيَامِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَذَلِكَ يَعُمّ الْمَسِيسَ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمّةِ فِي تَحْرِيمِ وَطْئِهَا فِي زَمَنِ الصّوْمِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَإِنّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ يُبْطِلُ التّتَابُعُ بِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُبْطِلُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَالثّانِي: لَا يُبْطِلُ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ. وَاَلّذِينَ أَبْطَلُوا التّتَابُعَ مَعَهُمْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِشَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلِأَنّ ذَلِكَ يَتَضَمّنُ النّهْيَ عَنْ الْمَسِيسِ قَبْلَ إكْمَالِ الصّيَامِ وَتَحْرِيمِهِ وَهُوَ يُوجِبُ عَدَمَ الِاعْتِدَادِ بِالصّوْمِ لِأَنّهُ عَمَلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَكُونُ رَدّا. وَسِرّ الْمَسْأَلَةِ أَنّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: تَتَابُعُ الشّهْرَيْنِ وَالثّانِي: الْمَسَاكِينِ التّمْلِيكُ وَلَا إطْعَامُهُمْ جُمْلَةً أَوْ مُتَفَرّقِينَ وَمِنْهَا: أَنّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَطْلَقَ إطْعَامَ الْمَسَاكِينِ وَلَمْ يُقَيّدْهُ بِقَدْرِ وَلَا تَتَابُعٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنّهُ لَوْ أَطْعَمَهُمْ فَغَدّاهُمْ وَعَشّاهُمْ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكِ حَبّ أَوْ تَمْرٍ جَازَ وَكَانَ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِ اللّهِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَسَوَاءٌ أَطْعَمَهُمْ جُمْلَةً أَوْ مُتَفَرّقِينَ.

.فصل لَابُدّ مِنْ إطْعَامِ سِتّينَ مِسْكِينًا مُخْتَلِفِينَ:

وَمِنْهَا: أَنّهُ لَابُدّ مِنْ اسْتِيفَاءِ عَدَدِ السّتّينَ فَلَوْ أَطْعَمَ وَاحِدًا سِتّينَ يَوْمًا لَمْ يَجْزِهِ إلّا عَنْ وَاحِدٍ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مَالِكٍ وَالشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَالثّانِيَةُ أَنّ الْوَاجِبَ إطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا وَلَوْ لِوَاحِدِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالثّالِثَةُ إنْ وُجِدَ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ وَإِلّا أَجْزَأَهُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ وَهِيَ أَصَحّ الْأَقْوَالِ.

.فصل لَا تُدْفَعُ الْكَفّارَةُ إلّا إلَى الْمَسَاكِينِ وَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْفُقَرَاءُ:

وَمِنْهَا: أَنّهُ لَا يُجْزِئُهُ دَفْعُ الْكَفّارَةِ إلّا إلَى الْمَسَاكِينِ وَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْفُقَرَاءُ كَمَا يَدْخُلُ الْمَسَاكِينُ فِي لَفْظِ الْفُقَرَاءِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَعَمّمَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ الْحُكْمَ فِي كُلّ مَنْ يَأْخُذُ مِنْ الزّكَاةِ لِحَاجَتِهِ وَهُمْ أَرْبَعَةٌ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ وَابْنُ السّبِيلِ وَالْغَارِمُ لِمَصْلَحَتِهِ وَالْمُكَاتَبُ. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ اخْتِصَاصُهَا بِالْمَسَاكِينِ فَلَا يَتَعَدّاهُمْ.

.فصل تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ اشْتِرَاطَ الْإِيمَانِ فِي الرّقَبَةِ:

وَمِنْهَا: أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَطْلَقَ الرّقَبَةَ هَاهُنَا وَلَمْ يُقَيّدْهَا بِالْإِيمَانِ وَقَيّدَهَا فِي كَفّارَةِ الْقَتْلِ بِالْإِيمَانِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ فِي غَيْرِ كَفّارَةِ الْقَتْلِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَشَرَطَهُ الشّافِعِيّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا أَهْلُ الظّاهِرِ وَاَلّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا الْإِيمَانَ قَالُوا: لَوْ كَانَ شَرْطًا لَبَيّنَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ كَمَا بَيّنَهُ فِي كَفّارَةِ الْقَتْلِ بَلْ يُطْلَقُ مَا أَطْلَقَهُ وَزَادَتْ الْحَنَفِيّةُ أَنّ اشْتِرَاطَ الْإِيمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى النّصّ وَهُوَ نَسْخٌ وَالْقُرْآنُ لَا يُنْسَخُ إلّا بِالْقُرْآنِ أَوْ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ. قَالَ الْآخَرُونَ وَاللّفْظُ لِلشّافِعِيّ شَرَطَ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي رَقَبَةِ الْقَتْلِ مُؤْمِنَةً كَمَا شَرَطَ الْعَدْلَ فِي الشّهَادَةِ وَأَطْلَقَ الشّهُودَ فِي مَوَاضِعَ فَاسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنّ مَا أُطْلِقَ مِنْ الشّهَادَاتِ عَلَى مِثْلِ مَعْنَى مَا شُرِطَ وَإِنّمَا رَدّ اللّهُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَفَرَضَ اللّهُ الصّدَقَاتِ فَلَمْ تَجُزْ إلّا لِلْمُؤْمِنِينَ فَكَذَلِكَ مَا فَرَضَ مِنْ الرّقَابِ لَا يَجُوزُ إلّا لِمُؤْمِنِ فَاسْتَدَلّ الشّافِعِيّ بِأَنّ لِسَانَ الْعَرَبِ يَقْتَضِي حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيّدِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ فَحُمِلَ عُرْفُ الشّرْعِ عَلَى مُقْتَضَى لِسَانِهِمْ. وَهَاهُنَا أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيّدِ بَيَانٌ لَا قِيَاسٌ.
الثّانِي: أَنّهُ إنّمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا: اتّحَادُ الْحُكْمِ.
وَالثّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُطْلَقِ إلّا أَصْلٌ وَاحِدٌ. فَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يُحْمَلْ إطْلَاقُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إلّا بِدَلِيلِ يُعَيّنُهُ. قَالَ الشّافِعِيّ: وَلَوْ نَذَرَ رَقَبَةً مُطْلَقَةً لَمْ يَجْزِهِ إلّا مُؤْمِنَةٌ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَأَنّ النّذْرَ مَحْمُولٌ عَلَى وَاجِبِ الشّرْعِ وَوَاجِبُ الْعِتْقِ لَا يَتَأَدّى إلّا بِعِتْقِ الْمُسْلِمِ. وَمِمّا يَدُلّ عَلَى هَذَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِمَنْ اسْتَفْتَى فِي عِتْقِ رَقَبَةٍ مَنْذُورَةٍ ائْتِنِي بِهَا فَسَأَلَهَا أَيْنَ اللّهُ؟ فَقَالَتْ فِي السّمَاءِ فَقَالَ مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللّهِ فَقَالَ أَعْتِقْهَا فَإِنّهَا مُؤْمِنَةٌ قَالَ الشّافِعِيّ: فَلَمّا وَصَفَتْ الْإِيمَانَ أَمَرَ بِعِتْقِهَا انْتَهَى. بِالْإِيمَانِ فَائِدَةٌ فَإِنّ الْأَعَمّ مَتَى كَانَ عِلّةً لِلْحُكْمِ كَانَ الْأَخَصّ عَدِيمَ التّأْثِيرِ. وَأَيْضًا فَإِنّ الْمَقْصُودَ مِنْ إعْتَاقِ الْمُسْلِمِ تَفْرِيغُهُ لِعِبَادَةِ رَبّهِ وَتَخْلِيصُهُ مِنْ عُبُودِيّةِ الْمَخْلُوقِ إلَى عُبُودِيّةِ الْخَالِقِ وَلَا رَيْبَ أَنّ هَذَا أَمْرٌ مَقْصُودٌ لِلشّارِعِ مَحْبُوبٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ وَكَيْفَ يَسْتَوِي عِنْدَ اللّهِ وَرَسُولِهِ تَفْرِيغُ الْعَبْدِ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَتَفْرِيغُهُ لِعِبَادَةِ الصّلِيبِ أَوْ الشّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنّارِ وَقَدْ بَيّنَ سُبْحَانَهُ اشْتِرَاطَ الْإِيمَانِ فِي كَفّارَةِ الْقَتْلِ وَأَحَالَ مَا سَكَتَ عَنْهُ عَلَى بَيَانِهِ كَمَا بَيّنَ اشْتِرَاطَ الْعَدَالَةِ فِي الشّاهِدَيْنِ وَأَحَالَ مَا أَطْلَقَهُ وَسَكَتَ عَنْهُ عَلَى مَا بَيّنَهُ وَكَذَلِكَ غَالِبُ مُطْلَقَاتِ كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ وَمُقَيّدَاتِهِ لِمَنْ تَأَمّلَهَا وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ فَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَنْ أُمِرَ بِصَدَقَةِ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النّاسِ {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النّسَاءُ 114] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَلْ مَوَاضِعَ يُعَلّقُ الْأَجْرَ بِنَفْسِ الْعَمَلِ اكْتِفَاءً بِالشّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الْأَنْبِيَاءُ 94] وَفِي مَوْضِعٍ يُعَلّقُ الْجَزَاءَ بِنَفْسِ الْأَعْمَالِ الصّالِحَةِ اكْتِفَاءً بِمَا عُلِمَ مِنْ شَرْطِ الْإِيمَانِ وَهَذَا غَالِبٌ فِي نُصُوصِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.

.فصل لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَيْ رَقَبَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُعْتِقًا لِرَقَبَةِ:

وَمِنْهَا: أَنّهُ لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَيْ رَقَبَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُعْتِقًا لِرَقَبَةِ وَفِي هَذَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلنّاسِ وَهِيَ رِوَايَاتٌ عَنْ أَحْمَدَ ثَانِيهَا الْإِجْزَاءُ وَثَالِثُهَا وَهُوَ أَصَحّهَا: أَنّهُ إنْ تَكَمّلَتْ الْحُرّيّةُ فِي الرّقَبَتَيْنِ أَجْزَاهُ وَإِلّا فَلَا فَإِنّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنّهُ حَرّرَ رَقَبَةً أَيْ جَعَلَهَا حُرّةً بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَكْمُلْ الْحُرّيّةُ.

.فصل لَا تَسْقُطُ الْكَفّارَةُ بِالْوَطْءِ قَبْلَ التّكْفِيرِ وَلَا تَتَضَاعَفُ:

وَمِنْهَا: أَنّ الْكَفّارَةَ لَا تَسْقُطُ بِالْوَطْءِ قَبْلَ التّكْفِيرِ وَلَا تَتَضَاعَفُ بَلْ هِيَ كَفّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا دَلّ عَلَيْهِ حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي تَقَدّمَ قَالَ الصّلْتُ بْنُ دِينَارٍ: سَأَلْتُ عَشْرَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ عَنْ الْمُظَاهِرِ يُجَامِعُ قَبْلَ أَنْ يُكَفّرَ فَقَالُوا: كَفّارَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ وَهُمْ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَمَسْرُوقٌ وَبَكْرٌ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ وَطَاوُوسٌ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ. قَالَ وَالْعَاشِرُ أَرَاهُ نَافِعًا وَهَذَا قَوْلُ الْأَئِمّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَصَحّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنّ عَلَيْهِ كَفّارَتَيْنِ وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ فِي الّذِي يُظَاهِرُ ثُمّ يَطَؤُهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفّرَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفّارَاتٍ وَذَكَرَ عَنْ الزّهْرِيّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي يُوسُفَ أَنّ الْكَفّارَةَ تَسْقُطُ وَوَجْهُ هَذَا أَنّهُ فَاتَ وَقْتُهَا وَلَمْ يَبْقَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى إخْرَاجِهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ. وَجَوَابُ هَذَا أَنّ فَوَاتَ وَقْتِ الْأَدَاءِ لَا يُسْقِطُ الْوَاجِبَ فِي الذّمّةِ كَالصّلَاةِ وَالصّيَامِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَوَجْهُ وُجُوبِ الْكَفّارَتَيْنِ أَنّ إحْدَاهُمَا لِلظّهَارِ الّذِي اقْتَرَنَ بِهِ الْعَوْدُ وَالثّانِيَةَ لِلْوَطْءِ الْمُحَرّمِ كَالْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَكَوَطْءِ الْمُحْرِمِ وَلَا يُعْلَمُ لِإِيجَابِ الثّلَاثِ وَجْهٌ إلّا أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً عَلَى إقْدَامِهِ عَلَى الْحَرَامِ وَحُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَدُلّ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْإِيلَاء:

ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ: عَنْ أَنَسٍ قَالَ آلَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ نِسَائِهِ وَكَانَتْ انْفَكّتْ رِجْلُهُ فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمّ نَزَلَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ آلَيْتَ شَهْرًا فَقَالَ إنّ الشّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ {لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطّلَاقَ فَإِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الْبَقَرَةُ 226] الْإِيلَاءُ لُغَةً الِامْتِنَاعُ بِالْيَمِينِ وَخُصّ فِي عُرْفِ الشّرْعِ بِالِامْتِنَاعِ بِالْيَمِينِ مِنْ وَطْءِ الزّوْجَةِ وَلِهَذَا عُدّيَ فِعْلُهُ بِأَدَاةِ مِنْ تَضْمِينًا لَهُ مَعْنَى يَمْتَنِعُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ إقَامَةِ مِنْ مَقَامَ عَلَى وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ لِلْأَزْوَاجِ مُدّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَمْتَنِعُونَ فِيهَا مِنْ وَطْءِ نِسَائِهِمْ بِالْإِيلَاءِ فَإِذَا مَضَتْ فَإِمّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمّا أَنْ يُطَلّقَ وَقَدْ اشْتَهَرَ عَنْ عَلِيّ وَابْنِ عَبّاسٍ أَنّ الْإِيلَاءَ إنّمَا يَكُونُ فِي حَالِ الْغَضَبِ دُونَ الرّضَى كَمَا وَقَعَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ نِسَائِهِ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ مَعَ الْجُمْهُورِ. وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُحَمّدُ بْنُ سِيرِينَ وَرَجُلٌ آخَرُ فَاحْتَجّ عَلَى مُحَمّدٍ بِقَوْلِ عَلِيّ فَاحْتَجّ عَلَيْهِ مُحَمّدٌ بِالْآيَةِ فَسَكَتَ. وَقَدْ دَلّتْ الْآيَةُ عَلَى أَحْكَامٍ.

.الْأَحْكَامُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ آيَةِ الْإِيلَاءِ:

مِنْهَا: هَذَا. وَمِنْهَا: أَنّ مَنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ أَقَلّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُؤْلِيًا وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَفِيهِ قَوْلٌ شَاذّ أَنّهُ مُؤْلٍ.

.لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ حَتّى يَحْلِفَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ:

وَمِنْهَا: أَنّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ حَتّى يَحْلِفَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ كَانَتْ مُدّةُ الِامْتِنَاعِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ لِأَنّ اللّهَ جَعَلَ لَهُمْ مُدّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا إمّا أَنْ يُطَلّقُوا وَإِمّا أَنْ يَفِيئُوا وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ وَالشّافِعِيّ وَمَالِكٌ وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مُؤْلِيًا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنّ الْمُدّةَ الْمَضْرُوبَةَ أَجَلٌ لِوُقُوعِ الطّلَاقِ بِانْقِضَائِهَا وَالْجُمْهُورُ يَجْعَلُونَ الْمُدّةَ أَجَلًا لِاسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ وَهَذَا مَوْضِعٌ اخْتَلَفَ فِيهِ السّلَفُ مِنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَالتّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَقَالَ الشّافِعِيّ حَدّثْنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الصّحَابَةِ كُلّهُمْ يُوقِفُ الْمُؤْلِي وَرَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْمُؤْلِي فَقَالُوا: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ الصّحَابَةِ وَالتّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَفِئْ فِيهَا طَلَقَتْ مِنْهُ بِمُضِيّهَا وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ التّابِعِينَ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ يَسْتَحِقّ الْمُطَالَبَةَ قَبْلَ مُضِيّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَإِنْ فَاءَ وَإِلّا طَلَقَتْ بِمُضِيّهَا. وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَسْتَحِقّ الْمُطَالَبَةَ حَتّى تَمْضِيَ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ فَحِينَئِذٍ يُقَالُ إمّا أَنْ تَفِيءَ وَإِمّا أَنْ تُطَلّقَ وَإِنْ لَمْ يَفِئْ أُخِذَ بِإِيقَاعِ الطّلَاقِ إمّا بِالْحَاكِمِ وَإِمّا بِحَبْسِهِ حَتّى يُطَلّقَ.